تفسير أو تأويل اللوحة الفسيفسائية
فيما يلي مقطع مقتبس من كلام تروت بيترسون بعنوان لوحة الإسكندر الفسيفسائية من كِتابه مخطوطة التاريخ , لوحات للتعليم منذ ثقافات القرون الغابرة و حتى القرن السادس عشر
إذا ما أخذنا بالحُسبان الظروف و موقع الانطلاق الذي شنّ منه الإسكندر هجومه على
إمبراطورية الفرس الشاسعة و المتفوقة فإنه و إلى حد كبير يعود
للظهور المرة تلوى الأخرى السؤال عن كيفية تحقيق الإسكندر للنصر على الجيش الفارسي
الجبار . وهذا النصر أتى كذلك كمفاجئة للفرس الذين كانوا واثقون بأنفسهم لدرجة أن
الملك داريوس على سبيل المثال أحضر معه بعض أفراد أسرته ومن ضمنهم زوجته المثقلة
بحملها و التي فيم بعد وقعت أسيرة في قبضة الإسكندر
تُقدم لنا اللوحة الفسيفسائية جوابا" لهذا السؤال فهي لا تُمثل فقط
تحفة فنية ولكن أيضا" نظرة تاريخية في سلسلة الأحداث التي قادت إلى تحقيق النصر للإسكندر
يحتل الملك داريوس معنويا" و تركيبيا" وسط اللوحة بعيونه المتوسعة رعبا" و هو ينظر إلى اليسار بينما يتلقى أحد حُراسه الشخصيين من أقاربه طعنة برمح الإسكندر وما تزال يد الرجل اليمنى الذي يُحتضر تُمسك بالسلاح القاتل آملا" أن يخرجه من جسده ولكنه ما لبث أن سقط صريعا" فوق جثة جواده الأسود الملطخة بالدم. إن يد داريوس اليمنى المُمتدة بعطف و لكن بلا جدوى و نظراته الحائِرة المُتجهة نحو الرجل المطعون بطعنة قاتلة لأنه رمى بنفسه بين داريوس و الإسكندر المتقدم . وعلى أية حال فإن نظرة و إلتفاتة الملك داريوس متجهة أيضا" باتجاه الإسكندر المُقترب و بذالك فقد وقع الملك الفارسي ضحية الرُعب العام لأنه لم يكن يُقاتل بنفسه بل يشاهد خصمه و هو يفتك بأفراد جيشه .
و بالمقارنة مع داريوس فإن الملك المقدوني كان
يقود المعركة بفعالية من على صهوة جوداه الجبار ( بيسفالوس ) كان يوجه
الضربات برمحِه الفتاك إلى جسد عدوه من دون أن يوجه نظرة إلى ضحيته لان عيونه
المُتوسعة مُوجهة إلى نِده داريوس . حتى أن قلادته المعلقة على درعه (كوركان :
تُمثل القلادة في الأساطير اليونانية القديمة وحش خرافي مخيف لإمرأة ) حولت نظراتها
في كل الاتجاهات إلى العدو المذعور وكأنها أرادت أن تزيد من القوة الموحية لعيني
الإسكندر .
تنسجم لوحة الإسكندر مع ما يُسمى بنمط لايزيبيان (
Lysippean ) و التي تضم مثلا" رأس بيرغامون ( Pergamon )
. الإسكندر لم يُجسد على النحو المثالي التالي الذي يستحقه :
بأنه يمتلك خصل شعر طويلة و صفات ناعمة و كاملة و كأنه تجسيد للإله العظيم
زيوس ,أو كإله الشمس هيليوس أو أبولو . بل و بالأحرى أن رأسه بدآ أكثر تجهما"
ورُسمت خدوده على نحو متوتر و تميّز بتجاعيد حُفرت بشكل موحي و عميق يعكس الخوف .
أيضا" شعره صُوّر على أنه قصير بالكاد يصل إلى أذنيه . على أية حال كلا النمطين
المثالي و الواقعي يُظهران على نحو لا يمكن إِنكاره ما يتميّز به الإسكندر من المفرق
في شعر جبهته و الجدائل القاسية و
باختلافها المُتأله
وكأنها أزواج من خِصل الشعر
المُنتصبة و المُشعّة . إن هذا الوصف ما هو إّلى مُحاكاة واضحة أخرى
لتصفيفه شعر غرّة أوغستس
(الملك الروماني العظيم كتب عنه كُتاب عُظماء مثل فيرجل و هوراس ) المُميّزة و المُصففة بإِمعان .
بالإضافة إلى ذلك ومع الأخذ بالحُسبان الضرر الذي لحِق باللوحة يُمكن تمييز بعض المقدونيين حول قائدهم الإسكندر من خلال خوذهم الشبيهة بالقلنسوة . إن أغلبية حجم اللوحة , حوالي ثلاث أرباع الحجم الكلي للوحة , يشغله الفرس . يرتدي الفرس لباس الحرب المُستخدم في وسط آسيا أو بما يُسمى بالدرع الطبقي أو المُصفّح وهذا الدرع يُغطي كامل الجسد و يُصنع من مربعات حديدية أو من قضبان برونزية و التي تتصل مع بعضها البعض من الأعلى و الأسفل و الأطراف بالحبال وكما هو مُلاحظ كان أمام داريوس صورة مُصغرة بالأساس لرجل فارسي وهو يحاول أن يُسيطر على حصانا" جفلا" والذي ربما فارسه هو الرجل المرمي بجانبه على الأرض . إنّ الشيء الوحيد الذي يبدو للناظر هو وجه الرجل المُحتضِر الذي تنعكس صورته على درع داريوس في أثناء مرور عربته من فوقه .
يتبع النمط التكويني الإنشائي للرجال الفرس الثلاثة الذين ينحدرون من اليمين إلى اليسار , أولا" الرجل المطعون من قبل الإسكندر فمروض الحصان و أخيرا" الرجل الذي يُحتضر , حركة الصورة الداخلية و الخارجية . يتكرر نفس الخط إلى اليمين من سوط سائق العربة من فوق عنان الجّياد إلى أرجلها و هو يميل بعنف بعربة الملك إلى اليمين ليلوذ بالفِرار . إن الصورة في منتصفها و مركزها ,حيث تصور المجموعة التي تضم مروض الحصان و الملك داريوس و سائق العربة و التي يسلط عليها الضوء من خلال دوران عجلة العربة , تُظهر نُقطة التحول في المعركة .
تظهر بوضوح براعة الفنان الذي أختار أن يُصور نقطة التحول في المعركة بمقارنتها على سبيل المثال مع لوحة ( معركة الإسكندر ) لي ألتيدورفير فموضوعها بسيط و غير مثير حيث تُصور ببساطة الإسكندر وهو يُطارد داريوس الفار . بينما في هذه اللوحة و بالمقارنة مع اللوحة السابقة فإن العديد من الرماح موجهة باتجاه مائل إلى اليسار و الأعلى و ما يزال وضع جسم داريوس يعكس خط هجوم الفرس . و بالمعنى الحرفي و الموضوعي للكلمة فإن خط الهجوم المذكور تعطل , من خلال الجزء العلوي من جسم الرجل المطعون بحربة الإسكندر ,بسبب خط الهجوم المغاير المنبثق عن الإسكندر . إن ذِراع الرجل الفارسي اليُسرى التي على شكل زاوية ورجله تُسجلان الآن الحركة في الاتجاه المعاكس ليتقابل بعدها مباشرا" مع رمح الإسكندر في مركز اللوحة و تنتهي باليد الجالدة لسائق العربة الذي كان أول من بدأ بالفرار . وتشير الرماح الثلاثة على الحافة اليمنى إلى هذا الفرار الذي سيؤثر حالا" في الرماح الأخرى التي ما تزال موجهة نحو الإسكندر . و بصورة إيحائية تتكرر حركة خطوط العدو في الاتجاه المعاكس من خلال جذع و أغصان الشجرة العارية .
يُمكن أن يُلخص الجواب للسؤال الذي تعرضه اللوحة عن تفوق الإسكندر من خلال السطور التالية : إن جراءة الإسكندر و تصميمه الثابت ينعكسان في وضعية جسده حيث أن عينيه المُتوقدتان و رمحه الفتّاك لها تأثير مُخيف و ساحق على خصومه الذين يفرون وهم مذعورين ولكن على أية حال فإن هذا التصوير يمنح معارضيه الشرف و الإنسانية كما يمكن أن يُلاحظ من خلال وضعية داريوس و الفرس الثلاثة اللذين كانوا يقاتلوا أمامه دفاعا" عنه . يُظهر أيضا" الاهتمام و التعاطف مع المهزومين في رواية الفرس لأخيليلوس كما أن الجواب في الصورة ينسجم ومعلوماتنا التاريخية حيث أن الإسكندر اتخذ القرار بالقيام بمناورة تكتيكية غير مسبوقة في معركتي اسيوس و غوغاميليا ففي كل مرّة كان يُهاجم خطوط العدو بدائرة من قوات الخيالة المسماة ( هيتاريو) وهم نوع من فرسان النخبة , مُستخدما" هذا الهجوم المفاجئ ليخلق نوعا" من المقاومة و الاستعراض بشكل غير متوقع على الإطلاق أمام الملك المذهول داريوس مُسببا" له الهرب خوفا" . لقد عامل الإسكندر الأسرى بمستوى رفيع من الرعاية و الاهتمام , الشيء الذي لم يكن الفرس معتادين عليه . وبالتالي فإن اللوحة لا تعكس معركة محددة للإسكندر و لكنها بالأحرى تعيد إلى حد كبير بناء الرموز المقدسة لنصره .